د. محمد صباح السالم الصباح

الأزمة المالية العالمية والقطاع المصرفي الكويتي

 

المؤتمر الدولي الرابع لكلية العلوم الإدارية

14 ديسمبر 2010 - الكويت

 

الحضور الكريم،

تكشف الدروس المستفادة من الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، التي تفاقمت خلال الربع الأخير من عام 2008، عن تضافر العديد من العوامل التي أدت إلى نشوء هذه الأزمة، منها أسباب ناشة عن اختلالات في العمل المصرفي تتمثل في ضعف الانضباط الائتماني والتراخي في شروط منح الائتمان والإفراط في إصدار المنتجات المبتكرة والمهيكلة ذات المخاطر العالية، وزيادة معدلات الرفع المالي، مع ضعف الدور الإشرافي للأجهزة التنظيمية والرقابية، وضعف في إدارة المخاطر ومعايير الحوكمة لدى المؤسسات المالية وذلك بالإضافة إلى تضافر أسباب أخرى ناشئة عن اختلالات في آليات عمل الأسواق المالية مثل ضعف في وظائف هذه الأسواق ومضاربات السوق بما تولد عنها من فقاعات سعرية وأزمة عدم ثقة في المؤسسات المالية وآليات عمل الأسواق.

هذا وقد ألقت الأزمة المالية والاقتصادية العالمية بتداعياتها على القطاعات المصرفية في معظم دول العالم، ومن ضمنها القطاع المصرفي في دولة الكويت، وهو ليس بمعزل عن تأثير انتشار الأزمة العالمية خاصة في ضوء قوة الترابط في العلاقات الاقتصادية الدولية مع انتشار ظاهرة العولمة، كذلك شملت تداعيات هذه الأزمة كل من الدول المتقدمة، التي تدخلت حكوماتها بخطط إنقاذ مالي بشكل غير مسبوق لإنقاذ نظمها المصرفية والمالية، والدول النامية التي تأثرت بشكل مباشر وغير مباشر من خلال انحسار المعونات المالية العالمية أو تراجع معدلات التمويل من الأسواق الخارجية نتيجة لتأثيرات الأزمة العالمية، وكذلك بتراجع في نمو صادرات بعض هذه البلدان وما كان لذلك من انعكاسات سلبية على الأوضاع المالية العامة في تلك الدول. هذا وبالرغم من برامج التحفيز الاقتصادي في جميع دول العالم إلا أن هذه الأزمة لا تزال تلقي بتداعياتها على الكثير من اقتصادات الدول المتقدمة والناشئة وبصفة خاصة فيما يتعلق بحالات العجز في الميزانية العامة وتزايد نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي مع وجود مخاوف ومحاذير من انتقال المخاطر السيادية إلى النظم المصرفية لدى بعض الدول وما قد يكون لذلك من ارتدادات عبر الاقتصاد.

فأزمة الديون السيادية في أوروبا تتفاقم، والمخاطر من التضخم المالي في الصين تتزايد، واستمرار ضعف الاقتصاد الأمريكي يشكل قلقا عالميا. فأوروبا خصصت قبل ستة أشهر تريليون دولار كبرنامج إنقاذ للديون السيادية في منطقة اليورو ولكنها سرعان ما اكتشفت أن هذا المبلغ غير كاف لتخفيض العجز وكذلك لتحفيز النمو الاقتصادي في الدول ذات المديونية العالية كاليونان وايرلندا والبرتغال مما دعا المستشارة الألمانية ميركل مؤخرا إلى الدعوة لإعادة جدولة وهيكلة الديون السيادية وتحميل البنوك التجارية جزءا من الأعباء. وقد تكون خطة " بريدي " في عام1987 لمعالجة أزمة ديون أمريكا اللاتينية مصدر هذا الإلهام الألماني. ولم يكن الوضع في الصين أفضل حالا، فالقفزة الكبيرة في معدلات التضخم خلال هذا العام في الصين بددت التفاؤل قي سيناريو الـSoft Landing لاقتصادها الجامح وزاد من تشاؤم المجتمعين في الـG20 حول منع حروب أسعار الصرف بين العملات الرئيسية في هذه المجموعة. ولكن الهم الأساسي لإعادة العافية للاقتصاد العالمي يكمن في استمرار ضعف معدلات النمو في الاقتصاد الأمريكي، وعلى الرغم من الـQE1  و QE2  إلا أن توقعات نمو الاقتصاد الأمريكي لا تبشر بخير. فتفاقم نسبة العجز للناتج المحلي الإجمالي وضخ 600 تريليون دولار في الدورة الاقتصادية ساهم في خلق جو عام من عدم اليقين في فعالية هذه الأدوات في منع الانحسار الاقتصادي والـ Deflation  في الولايات المتحدة.

وفي ضوء حجم ارتباطات المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية بالأسواق التي تشهد تلك الأزمات وانعكاس ذلك على أنشطة هذه البنوك الإسلامية ومعدلات أدائها فإن هذه الأزمات  تركت آثاراً سلبية على البنوك الإسلامية تمثلت تداعياتها في انخفاض أسعار الأصول المالية والعقارية، وحدوث تباطؤ في الطلب على أدوات التمويل الإسلامي، وتباطؤ في نمو إصدار الصكوك الإسلامية.

هذا ولقد كانت هناك تداعيات مؤثرة للأزمة المالية العالمية على كل من البنوك التقليدية والبنوك الإسلامية، وهو ما أوجد دعوات للنظر في تطوير أساليب ونماذج وممارسات العمل المصرفي، خصوصاً بمجال تطوير وتحسين أداء إدارات المخاطر تجنبا لآثار أية أزمات مالية في المستقبل لكي تتمكن تلك البنوك من ممارسة دور ريادي في أداء اقتصاديات بلدانها.

وفيما يختص بمجال البنوك الإسلامية، فعليها إعادة تقييم نماذج العمل المطبقة لديها وبصفة خاصة من حيث تدعيم قواعدها الرأسمالية وتحسين إدارة السيولة مع تقييم منتجاتها لإزالة المخاطر الكامنة في ميزانياتها العمومية وتحقيق الاستقرار في أوضاع التمويل لديها، بالإضافة الى تنويع وتطوير منتجاتها. ونرى أن استجابة البنوك الإسلامية لمجموعة هذه الأمور والتحديات سوف يمكنها أيضا من سهولة استيفاء متطلبات حزمة إصلاحات بازل(3)، وبصفة خاصة فيما يتعلق بمعيار كفاية رأس المال ومعيار السيولة ومعيار الرفع المالي وذلك بالإضافة إلى مجموعة المتطلبات المتعلقة بتعزيز إدارة المخاطر ومعايير الحوكمة في هذه البنوك.

وبطبيعة الحال، فإن السلطات الرقابية مطالبة من جانبها بمراجعة وتحديث التشريعات المالية للعمل المصرفي الإسلامي وبما يساعد هذه البنوك على توفير المنتجات والأدوات المناسبة لطبيعة أعمالها واستقرار مواردها المالية وبما يعزز الدور الإشرافي والرقابي على أعمال هذه البنوك الإسلامية.

وفي الكويت، تركت الأزمة المالية العالمية تأثيرات سلبية على الاقتصاد الوطني تمثلت في التراجع الحاد في قيم الأصول نتيجة لموجة عدم الثقة في الأسواق وتراجع حجم النشاط الاقتصادي مصحوبا بشح مصادر التمويل وانقطاع بعضها، وضعف قدرة بعض الشركات على تحقيق العوائد وتزايد حجم مديونياتها، بالإضافة إلى الآثار التي تركتها الأزمة على البنوك التقليدية والإسلامية والمتمثلة في تراجع قيمة محافظها الإقراضية ومحافظ التمويل ومحافظ استثماراتها المالية والعقارية.

وقد قامت دولة الكويت، يدعمها في ذلك ما تتمتع به من تصنيفات سيادية عالية من قبل وكالات التصنيف العالمية الرئيسية، بتوجيه السياسة الاقتصادية لديها بجانبيها النقدي والمالي لمواجهة آثار الأزمة المالية والاقتصادية العالمية على أوضاع القطاع المصرفي والوضع الاقتصادي في البلاد بصفة عامة.

فعلى صعيد السياسة النقدية والرقابية، انتهج بنك الكويت المركزي سياسة التخفيف في تطبيق هذه الأدوات، وهي سياسات بدأ تطبيقها أيضاً من قبل البنوك المركزية والسلطات الرقابية في معظم دول العالم. وفي هذا الإطار، قام البنك المركزي خلال الربع الأخير من عام2008 باتخاذ حزمة من الإجراءات على صعيد السياسة الرقابية والنقدية تمثلت في ضخ السيولة في الجهاز المصرفي لفترات استحقاق مختلفة، وإدخال تعديل في بعض النسب الرقابية بهدف تخفيف ضوابط الإقراض بما يسمح للبنوك بتوسيع المساحة الإقراضية لديها وتسهيل انسياب تدفق الائتمان المصرفي داخل قطاعات الاقتصاد الوطني للحد من حدوث انكماش في الائتمان المصرفي. ومن ضمن الإجراءات التي اتخذها البنك المركزي في هذا الشأن رفع الحد الأقصى لنسبة القروض إلى الودائع من %80 إلى %85، والسماح للبنوك باعتبار العقارات من ضمن الضمانات المقبولة لتخفيف المخاطر الائتمانية لغرض احتساب نسبة كفاية رأس المال(بازل2)، وتخفيف نسبة متطلبات السيولة من %20 إلى %18. كذلك وعلى صعيد إجراءات السياسة النقدية في مجال سعر الفائدة فقد قام بنك الكويت المركزي منذ بداية أكتوبر من عام2008 بإجراء ستة تخفيضات في سعر الخصم آخرها بتاريخ 2010/2/7 ليصل سعر الخصم إلى %2,5 من %5,75 ، كذلك وفي إطار مجموعة السياسات والإجراءات الاحترازية في مواجهة الأزمة المالية العالمية، فقد تم أيضاً صدور القانون رقم30)) لسنة2008 بتاريخ2008/11/3 بشأن ضمان الودائع في البنوك المحلية في دولة الكويت، ويهدف صدور هذا القانون إلى تعزيز القدرة التنافسية للبنوك وتعزيز أجواء الثقة في اقتصادنا الوطني وفي القطاع المصرفي.

ولقد كان لمجموعة تلك الإجراءات دور مباشر في مواصلة الائتمان المصرفي لمعدلات نمو إيجابية في عامي2009 و2010 وعدم حصول انكماش ائتماني، وإن كان ذلك بمعدلات نمو بطيئة مقارنة بالأعوام السابقة، وهو ما يعتبر أمرا طبيعيا في أوقات الأزمات حيث أن السياسة المالية هي التي تلعب الدور الأهم في هذه الأوقات من خلال زيادة معدلات النمو في الاتفاق وبصفة خاصة على المشاريع الرأسمالية، ومنها مشاريع البنية التحتية.

لذلك وفي إطار دور السياسة المالية في مواجهة آثار الأزمة المالية العالمية صدرت الخطة الإنمائية للسنوات (2010/2011 – 2013/2014) بموجب القانون رقم9 لسنة2010 والذي تم العمل به اعتبارا من أول فبراير2010 في ضوء رؤية لتحقيق مجموعة من الأهداف الإستراتيجية تتمثل أساسا في تحفيز جهود وإمكانات الدولة للاستعداد للتحديات التي تواجه مسيرة التنمية من خلال تبني سياسات متعددة تهدف إلى توسيع ودعم دور القطاع الخاص في التنمية، وذلك خلال إحياء الدور المحوري للقطاع الخاص في قيادة التنمية، من خلال قيام الحكومة بإنشاء شركات مساهمة عامة بمشاركة القطاع الخاص، بما في ذلك السياسات التي تبنتها الخطة لتطوير وتعزيز مقومات تحول الكويت إلى مركز مالي وتجاري.

وانسجاما مع الأهداف الإستراتيجية للخطة الإنمائية من حيث معالجة الاختلالات الهيكلية الرئيسية في الاقتصاد وتوسيع ودعم دور القطاع الخاص في التنمية، فإن عملية تمويل الشركات التي سيتم تأسيسها لتنفيذ مشاريع الخطة الإنمائية لا بد وأن تأتي منسجمة مع الأهداف الإستراتيجية للخطة وهو الأمر الذي يتطلب إسناد الدور الرئيسي في تمويل هذه الشركات للقطاع المصرفي في دولة الكويت، وهو قطاع واسع يضم العديد من المصارف الوطنية التقليدية والإسلامية بالإضافة إلى فروع لبنوك أجنبية، مع الأخذ بالاعتبار الدور المشهود لهذا القطاع في تمويل النهضة الاقتصادية في الدولة منذ بداية الستينيات، إضافة إلى الارتفاع النسبي في مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي والتي بلغت نحو%43,4 في عام 2007 ثم تراجعت إلى%35,9 في عام2009. وبذلك فإن تعزيز أداء القطاع المصرفي،الذي يأتي رديفاً لقطاع النفط ويشكل الركيزة الأساسية لتحويل الكويت إلى مركز مالي وتجاري، يعتبر مطلباً اقتصاديا ووطنياً وينسجم مع إستراتيجية السياسة الاقتصادية للدولة ومع أهداف الخطة الإنمائية في معالجة تداعيات الأزمة المالية العالمية على الإقتصاد الكويتي. وخير دليل لنا في ذلك تجارب الدول الأخرى التي سارعت إلى دعم مصارفها بتطبيق خطط إنقاذ مالي غير مسبوقة، في حين أن مصارفنا الوطنية، والحمدلله، لم تكن بحاجة إلى هذه الخطط من الإنقاذ المالي. وبذلك يمكن القول وبوضوح أن الوضع الطبيعي لتمويل مشاريع خطة التنمية يتمثل في إسناد  الدور الرئيسي إلى البنوك المحلية، وهو أمر يتماشى مع الممارسات الدولية حيث تتم عمليات التمويل من خلال الأسواق المصرفية والمالية. كذلك فإن هذه البنوك خاضعة لإشراف السلطة الرقابية التي أسند إليها القانون مهام رقابة الجهاز المصرفي وتوجيه السياسة الائتمانية بما يساعد على التقدم الاقتصادي والاجتماعي وزيادة الدخل القومي. هذا وتؤكد قوة التصنيفات الائتمانية للبنوك الوطنية قدرة هذه البنوك على تمويل مشاريع التنمية وذلك بما لديها من قدرات فنية وتمويلية تتمثل فيما يتوافر لها من موارد مالية وفوائض في السيولة وقواعد رأسمال قوية تسمح لها بالتوسع الائتماني وذلك بالإضافة إلى خبرات متراكمة في مجال التمويل والدراسات المالية، وخبرة مشهودة في مجال تمويل المشاريع الكبرى، كذلك فإن فروع البنوك الأجنبية العاملة في دولة الكويت قادرة بدورها على المشاركة بشكل فعال في تمويل مشاريع الخطة خاصة وأن هذه الفروع هي لبنوك عالمية ذات مراكز مالية قوية ومشهود لها بالقدرة الفنية والمالية في ترتيب القروض المشتركة على المستوى الدولي.

واعتقد ان القطاع المصرفي، بشقيه التقليدي والإسلامي، قطاع قادر على تمويل الشركات ذات الجدوى من خلال منحها احتياجاتها من التمويل بأسعار السوق سواء كان ذلك في صورة قروض أو تمويل من قبل البنوك منفردة أو في صورة قروض وتمويل مشترك من قبل مجموعة من البنوك التقليدية والإسلامية أو بمشاركة فروع البنوك الأجنبية أو عملية تمويل مشترك مع بنوك أجنبية. إضافة إلى الحصول على التمويل من خلال قيام الشركات بإصدار السندات والصكوك من خلال السوق المالي وبما يتناسب مع الاحتياجات التمويلية للمشروع.

ختاما، وإذ نشير إلى أن خطة التنمية تعد الأولى التي تصدر بتوافق السلطتين التشريعية والتنفيذية وما تمثله من توجه جديد في العمل الحكومي والبرلماني، نتطلع وبكل التفاؤل أن تسير ومشاريعها المتنوعة باتجاه يخدم الأهداف التي وضعت من  أجلها لتحقيق توجيهات حضرة صاحب السمو الأمير حفظه الله ورعاه في أن تكون الكويت مركزا إقليميا للخدمات المالية والتجارية، وأن لا يكون تركيزنا في الخطة الإنمائية فقط على المشاريع الإنشائية بل يجب أيضا أن نسرع الخطى في تطوير قوانين رئيسية ذات علاقة مثل قانون الشركات وقانون المنافسة وتطوير البيئة التشريعية المناسبة لمواكبة التطورات التشريعية في العالم. كما يجب تطوير وتحديث مؤسسات ومخرجات قطاع التعليم لما يمثله ذلك من ركيزة أساسية في هذا المشروع التنموي.

شكرا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

اتصل بنا

للتواصل معنا، يرجى ملء النموذج التالي
© جميع الحقوق محفوظة