محاضرة د. محمد صباح السالم الصباح خلال حفل إستلام الدكتوراه الفخرية في أنظمة الإتصال في العلاقات الدولية من جامعة بيروجيا للأجانب في الجمهورية الإيطالية
بيروجيا – 6 أكتوبر 2011
السيداتِ والسادةَ الموقرون، أعضاءَ هيئةِ التدريسِ وطلابَ ومنتسبي جامعةِ بيروجيا للأجانب، السلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاته.
أودُّ بدايةً أن أعبرَ لكم عن مدى غِبطتي وسعادتي بلقاءِ هذا الجمعِ الأكاديميِ المرموقِ في هذا المركزِ العلميِ الشامخ.
واسمحوا لي كذلك أن أعبرَ عن مدى إعجابي بعاصمةِ أمبريا العظيمةِ المشهورةِ بثقافتِها المتنوعةِ وعراقةِ ماضيها. وعندما تُذكرُ مدينةُ بيروجيا يتبادرُ إلى الذهنِ أحدُ أبنائِها المتميزينَ وهو الفقيهُ القانونيُّ بالدوس دي أوبالديس الذي كانت له إسهاماتٌ مشهودةٌ في مجالِ القانون، إضافةً إلى الفنانِ بييترو بيروجينو صاحبِ الإسهاماتِ الكبيرةِ في مجالِ الفنِّ التشكيلي في عصرِ النهضة. أما من الناحيةِ الجمالية، فسكانُ هذه المدينةِ حباهم اللهُ بأراضٍ تتمتعُ برومانسيةٍ خلابةٍ وهالةٍ سحريةٍ لا مثيلَ لها تتمثلُ في بحيرةِ تراسيمينو الرائعة.
تحتفلُ إيطاليا هذا العام بذكرى مرورِ 150 عاما على توحيدها وبناءِ دولتها الحديثة، حيثُ يعدُّ هذا التحولُ من التشرذمِ إلى التوحيدِ من أهم التطوراتِ على الساحةِ السياسيةِ الأوروبيةِ خلالَ النصفِ الثاني من القرنِ التاسعَ عشر. لقد ساهم هذا التوحدُ الذي صمدَ أمامَ كلِّ التحدياتِ في جعلِ إيطاليا لاعباً عالمياً في المجتمعِ الدولي. وكما تحتفلُ إيطاليا هذا العام بهذه الذكرى المهمة، فإن الكويتَ تحتفلُ بالذكرى الخمسين لاستقلالها. ففي عام 1961، أصبحت الكويتُ دولةً كاملةَ السيادةِ منضمةً بذلك إلى الدولِ المستقلةِ وعضواً فعالاً في المجتمع الدولي.
اسمحوا لي أن أخاطبَكم اليومَ بوصفي أكاديمياً سابقاً، وزميلاً لكم في هذه المهنةِ العزيزة، فالروحُ التي تحركُ كلَّ أكاديميٍ هي السعيُ لاكتسابِ المزيدِ والمزيدِ من المعارف، فالأكاديميُ يتميزُ على الدوام بعدمِ الرضا عن الوضعِ الراهن، وهو مجبولٌ دائماً على الرغبةِ الجامحةِ في تقصي طريقِ الحقيقةِ من خلالِ التفكيرِ النقديِ والتساؤلِ المستمر، فالسعيُ لاكتسابِ المزيدِ من المعارف أينما كانت أمرٌ من واقعِ طبيعتنا كشعبٍ كويتيٍ وعربيٍ ومسلمْ، حتى لو تطلبَ ذلك السفرَ إلى أقاصي الأرض.
ومن القيمِ الأخرى التي لا تقلُّ أهميةً عن قيمةِ المعرفةِ بالنسبةِ لشعبِ الكويت، قيمُ الأسرةِ والدينِ والدولة، فهي في مجملها تشكلُ هويةَ العقليةِ الكويتية، ولا يساورني أدنى شكٍ هنا في أن الشعبَ الإيطاليَ الصديقَ يؤمنُ أيضاً بهذه القيمِ ويقدرُها حقَّ قدرِها، فهي بمثابةِ ركائزَ أساسيةٍ تستنهضُ قيمَ الشجاعةِ والبطولةِ والأملِ وتسهمُ في إعادةِ بناءِ الدولِ بعد أن تتعرضَ للغزو والاعتداءِ.
اسمحوا لي الآن أن أدخلَ في صُلبِ الموضوعِ الذي أنا بصدده، وهو الحديثُ عن الكويتِ كدورٍ وتطلعٍ، فإذا ما كان لأحدٍ أن يوجهَ سؤالاً حولَ دورِ الدولةِ وفي جملةٍ واحدة، فستكونُ إجابتي: إن الكويتَ تضطلعُ بدورِ سدِّ الفجوات، وهو دورٌ يعملُ في نطاقٍ يتجاوزُ الزمانَ والمكانَ، من خلالِ المجالاتِ الأربعةِ الآتية:
فجوة الشرق – الغرب
فجوة الغنى – الفقر
فجوة الحاضر – المستقبل
فجوة الحداثة – الأصالة
1. الشرق مقابل الغرب
اعتمدت الكويتُ، منذُ استقلالِها عامَ 1961، سياسةَ الحيادِ الإيجابيِ تجاهَ الاختلافِ الأيديولوجيِ بينَ الشرقِ والغرب، حيثُ كانت أولَ دولةٍ في الخليجِ العربيِ تقيمُ علاقاتٍ دبلوماسيةً مع الاتحادِ السوفييتي في مطلعِ الستينيات، كما أدت دوراً بناءً في حوارِ الشمالِ والجنوب، أو ما عُرف حينذاك بــ"لجنة برانت" التي كانت تحملُ تصوراً جديداً حولَ الأمنِ العالميِ من خلالِ إبرازِ القضايا الدوليةِ الرئيسيةِ التي تشكلُ صلبَ الفجوةِ بين الشمالِ الغني والجنوبِ الفقير كمواضيع التنميةِ الغذائيةِ والتنميةِ الزراعيةِ والطاقةِ والتجارةِ والإصلاحاتِ المالية والنقدية. ونتيجة لإيمانِ الكويتِ بضرورةِ معالجةِ تلك الفجوةِ بين الشمالِ والجنوبِ تحقيقاً للانسجامِ العالمي، فقد بادرت إلى استضافةِ أعمالِ اجتماعاتِ اللجنةِ عامَ 1982 إضافةً إلى كونها أحدَ مموليها الرئيسيين.
لم تُفقِد التقلباتُ السياسيةُ وتطوراتُ الأحداثِ التاليةُ والمتلاحقةُ الكويتَ توجهاتِها العقلانيةَ والانفتاحية، فسقوطُ جدارِ برلين وانهيارُ العالمِ ثنائيِ القطبية واجهتُه الكويتُ بكلِ حكمةٍ من خلالِ إعادةِ تقويمِ استراتيجيةِ سياستها الخارجيةِ من أجلِ مواصلةِ الحفاظِ على سيادتِها وأمنها في إطارِ القانونِ والشرعيةِ الدوليين. كما أن الغزوَ الصداميَ للكويتِ عام 1990 عززَ التزامَ الدولةِ التامَّ والقاطعَ بسيادةِ القانونِ ومبادئِ المواطنةِ العالمية، وأن الشرعيةَ الدوليةَ متمثلةُ بهيئةِ الأممِ المتحدة هي الحضنُ والملاذُ للجميعِ، لاسيما للدول الصغيرة. فالالتزامُ بالشرعيةِ الدوليةِ كان على الدوامِ موقفاً ثابتاً لسياسةِ الكويتِ الخارجية، وقد تجلى ذلك أيضاً في العديدِ من الملفاتِ الساخنةِ كقضية كوسوفو ونغورنو كاراباخ وأبخازيا مروراً بالرمالِ المتحركةِ الخطيرةِ في عمليةِ السلامِ في الشرق الأوسط، وصولاً إلى الملفِ النوويِ الإيراني.
جاء عامُ 2003 حاملاً في طياتهِ العديدَ من التحولات، قابلتها العديدُ من الدولِ بما فيها دولةُ الكويت بتغيرٍ كبيرٍ في أولوياتها. إن هذا المتغيرَ الذي تمثلَ بسقوطِ نظامِ الدكتاتوريةِ في العراق استشعرت الكويتُ مبكراً مدى تأثيره العميقِ على مستقبلِ التعايشِ السلميِ في المنطقة، خاطةً بذلك مساراً لعلاقاتها مع جيرانها في دولِ المنطقةِ انطلاقاً من دوافعَ اقتصاديةٍ تسعى إلى تحقيقِ الازدهارِ لمجتمعاتِ دوله، فالسياسةُ الخارجيةً للدولةِ كانت إلى ما قبل عام 2003 تتسمُ بدرجةٍ عاليةٍ من الحذرِ والترقبِ بسببِ الشكوكِ الدائمةِ في النوايا السيئةِ الذي حملَها صدام حسين تجاهَ جيرانه، والكويت على وجهِ التحديد، إلا أنه بسقوطِ ذلك النظامِ الاستبداديِ انطلقت هذه السياسةُ من الدبلوماسيةِ الوقائيةِ إلى الدبلوماسيةِ الاقتصادية بهدفِ تعظيمِ المنافعِ والاستفادةِ من الأجواءِ التي حققتها الانفراجةُ الأمنيةُ في المنطقة، واتخذت في سبيل ذلك العديدَ من الخطواتِ من أجلِ تعزيزِ أهدافِها الاجتماعيةِ والاقتصادية، مستفيدةً من موقعها الجيو- سياسي الاستراتيجيِ المميزِ الذي يقعُ وسطَ مفترقِ طرقِ المنطقةِ، والذي يعتبر بوابةً لدولِ الخليجِ العربي والمشرقِ وشمالِ أفريقيا وإيران وآسيا الوسطى. كما أنه شكَّل تاريخياً طريقاً للقوافلِ العابرة مما مكَّنها من أن تكونَ مركزاً للتجارةِ الإقليمية في ذلكَ الوقتِ المبكر.
تعدُّ الكويتُ حاليا أحدّ أهمِ وأنشطِ المراكزِ الدبلوماسيةِ في الشرقِ الأوسط، فعددُ السفاراتِ الأجنبيةِ المقيمةِ في البلاد قفزَ في السنواتِ القليلةِ الماضية إلى 94 بعثة، وشهد العامَ الماضي وحدَه افتتاحَ 12 سفارةً أجنبيةً جديدة، كما أن عددَ اللجانِ المشتركةِ مع دولِ العالمِ في ازديادٍ مستمرٍ، وتحتلُ القضايا الاقتصاديةُ الحيزَ الأكبرَ من أعمالِ تلك اللجان، ناهيك عن الاتفاقياتِ ومذكراتِ التفاهمِ بينَ الكويتِ والدولِ الصديقة التي ازدادت من 42 اتفاقيةً ومذكرةَ تفاهم في عام 2006 إلى 164 في عام 2010. كما أن الكويت، وسعياً للانخراطِ أكثرَ في قضايا ومشاغلِ المجتمعِ الدولي وتحدياته المستقبلية، عمدت إلى توسيعِ نطاقِ دبلوماسيتها، فافتتحت على مدى السنواتِ الخمسِ الأخيرة 22 سفارةً كويتيةً في الخارج، ليصل العددُ الإجماليُّ إلى 90 بعثةً تغطي جميعَ أنحاءِ العالم.
إن الرؤيةَ الطموحةَ لسيدي حضرةِ صاحبِ السموِ أميرِ البلاد صباح الأحمد الجابر الصباح، حفظه الله ورعاه، في إعادةِ الكويتِ كمركزٍ تجاريٍ ومالي مزدهرٍ في المنطقة تجدُ ترجمتَها وتعزيزها في خطةِ التنميةِ المعتمدة حتى عام 2035، حيثُ يجري العملُ حالياً على تنفيذِ خطةِ التنميةِ للسنواتِ الأربعِ المقبلة (2010 – 2014) بميزانيةٍ تفوقُ الـ120 مليارَ دولار. وأود أن أذكرَ بهذا الصدد أنه انطلاقاً من إيمانِ الكويتِ المطلقِ في الانفتاحِ على العالم فإن الأصدقاءَ من مختلفِ الدول، وفي إيطاليا، مدعوون لمساعدتنا بخبراتهم العريقةِ من أجلِ تحقيقِ رؤانا التنمويةِ الطموحة.
2. الغنى مقابل الفقر
عندما حصلت الكويتُ على استقلالِها في عام 1961، أرسلَ أميرُ البلادِ حينذاك عبدالله السالم الصباح، رحمه الله، رسالةً من الشعبِ الكويتي إلى العالم تقول: "بالرغمِ من أننا في خضمِ التغيّر، فإننا لن ننسى أصدقاءنا المحتاجين." وفي سبيلِ ذلك حددت الكويتُ جوهرَ هويتها واستراتيجيتها السياسيةِ الأساسية؛ وذلكَ بأن تكونَ عنصراً عالمياً، متفاعلاً إيجابياً مع مشكلاتِ الآخرينَ واحتياجاتهم. فكان إنشاءُ الصندوقِ الكويتيِ للتنمية الاقتصادية العربية في ديسمبر 1961، أي بعد ستةِ أشهرٍ فقط من الاستقلال، تعبيراً فعالاً ونوعياً عن هذه الإستراتيجية، وأودُ أن أشير هنا إلى ما كتبه روبيرت مكنمارا رئيسُ البنكِ الدولي 1968 – 1981: "عندما تأسسَ الصندوقُ الكويتيُ في عام 1961، كان فعلاً غيرَ مسبوق، فهذه الكويتُ الدولةُ الصغيرةُ التي كانت حتى عهدٍ قريبٍ من بين أفقرِ بقاعِ الأرض، تؤسسُ صندوقاً للتنميةِ خلالَ السنةِ الأولى من استقلالها السياسي، فهذه الدولةُ وهي تستقبلُ ثروتَها الجديدة، أبدت كل استعدادها لتقاسمِ هذه الثروةِ مع جيرانها العرب."
بعد مضيِ نصفِ قرنٍ من الزمن على تأسيسه، بلغَ ما خصصه الصندوقُ الكويتيُ من مساعداتٍ أكثر من 15 مليارَ دولار شملت أكثرَ من 100 دولةٍ عبرَ مشاريعَ تنمويةٍ تهدفُ إلى مساعدةِ الدولِ النامية والفقيرة ليس عن طريقِ تقديمِ الصدقات، بل من خلال الاستثمارِ في رفاهيةِ الإنسان، مما جعل الصندوقَ الكويتي أكبرَ مؤسسةٍ للمساعدات التنمويةِ في العالم بعد البنكِ الدولي.
نحن فخورون بسجلنا الحافلِ في مجالِ المساعدات الخارجية، فحسبَ التقريرِ المرحليِ لهيئةِ الأمم المتحدة للأهدافِ الإنمائيةِ الألفية لعام 2005 الخاصِ بالكويت، فقد بلغت المساعداتُ التنموية خلال الفترة 1990 – 2003 نسبة 1.31% من الناتجِ القوميِ الإجمالي. وذلك المعدلُ يقاربُ ضعفَ النسبةِ المستهدفةِ والمتفق عليها من قبلِ الأممِ المتحدة وهي 0.7% من الناتجِ القومي الإجمالي للدولِ المتقدمة. ومن ناحيةٍ أخرى، فمعدلُ المساعداتِ التنمويةِ المقدمة من دولِ منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية يبلغ 0.46% من الناتجِ القومي الإجمالي، مما يجعل ما تقدمه الكويتُ أكثرَ بثلاثةِ أضعافِ مما تقدمه الاقتصاداتُ الأكثرُ تقدماً، ولابد أن نشير في هذا السياقِ إلى أنه على الرغم من كونِ الكويتِ دولةً صغيرة، فإنها صُنفت باعتبارها الدولةَ الرائدةَ في مجالِ المساعداتِ الخارجية؛ لدورها المهمِ في مجالِ التنميةِ المستدامة.
لا ريبَ في أنّ الجميعَ سمعَ عن الأزمةِ المالية الدولية ومدى آثارها الضارةِ على الشركات، إلا أن هناك أزماتٍ أخرى تستحقُ الالتفاتَ إليها وتضافرَ الجهودِ لحلها كـ"أزمةِ الجوع الصامت" التي تشملُ سُدسَ البشرية، لذا فعلينا كدولٍ ومجتمعات واجبٌ أخلاقيٌ ، ونحن مدعوون لمساعدةِ هؤلاء المحتاجين، فهناك مليارُ شخصٍ في العالم يبيتون جائعين، إضافةً إلى أن 17 ألفَ طفلٍ يموتون يومياً بسبب الجوع. ويمكن منعُ هذا الأمرِ إذا ما توافرِ للناسِ أساسياتُ الحياةِ كالمياهِ النظيفة والغذاءِ والمأوى. إن الفقرَ والبطالةَ عائقانِ أساسيان أمامَ تطورِ المجتمعات، فهناك 1.7 مليار شخص يعيشون في فقرٍ مُدقع، وحسبَ تقريرٍ حديثٍ نشرته منظمةُ العمل الدولية، فهناك 205 ملايين شخص عاطلون عن العمل، ونسبةُ البطالةِ لدى الشبابِ ما بين العمر 15 – 24 تشكل 12.6% ، وهي نسبةٌ - بلا شك - تدللُ بوضوحٍ على مدى التأثيرِ السياسي والاجتماعي الذي تسببه للدولِ والمجتمعات، كما شهدنا ذلك مؤخراً في الوطنِ العربي حيث كانت البطالةُ بين صفوفِ الشبابِ دافعاً رئيسياً للانتفاضات التي حدثت في بعض الدول. إن حلولَ تلك المشكلات قد تكون بسيطةً في بعضِ الأحيان، فتعبيدُ طريقٍ يربط مدينتين معاً من أجل تشجيعِ التجارةِ البينية أو حفرُ بئرٍ جديدةٍ لمياه شربٍ نظيفة أو بناءُ مدرسةٍ أو حتى توفيرُ آلةٍ للخياطة لسيدة مسنةٍ لتمكينها من كسبِ لقمة عيش كريمة، كلُّها أمورٌ تمنح أملاً للناسِ بمستقبل أفضل.
واستشعاراً من الكويتِ لمدى ما يعانيه المواطنُ العربيُ معيشياً، وانطلاقاً من إيمانها الثابتِ بالعملِ على جَسر الفجوة بين المجتمعاتِ الغنية والفقيرة، فقد بادرت لطرح فكرةِ عقدِ قمةٍ عربيةٍ اقتصادية لمعالجة المشكلاتِ الاجتماعيةِ والتنموية كالتعليمِ والسكن والرعايةِ الصحية والبنية التحتية التي تواجهُ شعوبنا العربية، وترجمةً لذلك استضافت في عام 2009 أولَ قمةٍ اقتصاديةٍ عربية، كان للسياسةِ
فيها - للمرة الأولى، المقعدُ الخلفي.
إن أعداءَ الكويتِ ليسوا جيرانَها ولا ينبغي أن يكونوا، فالعدوُّ الحقيقيُّ والمشترك الذي يجب أن تُوحدَ جميعُ الجهودِ لمحاربته هو الجهلُ والفقرُ والمرض. لقد حبانا اللهُ منذ استقلالنا ثروةً ألزمنا أنفسنا بتقاسمها مع الآخرين وحاربنا في سبيلِ ذلك من أجلِ إحقاق الحقوقِ المستحقة للفقراءِ في شتى بقاعِ الأرض. نحن ندركُ أن من واجبنا تشجيعَ الابتكارِ وروحِ المبادرة باعتبارها مفاتيحَ التقدمِ نحو المستقبل، لذا فإن من أهم المبادراتِ الخلاقةِ التي طرحها سيدي حضرةُ صاحبِ السمو أميرُ البلاد صباح الأحمد الجابر الصباح، حفظه الله ورعاه، هي مبادرةُ تأسيسِ صندوقٍ لتمويلِ المشروعاتِ الصغيرةِ والمتوسطةِ برأس مال قدره مليارا دولار من أجل تمويلِ مشاريعِ أصحاب المهنِ البسيطةِ في الدول العربية، حيث ساهمت الكويتُ بمبلغ 500 مليون دولار من رأس ماله. علاوةً على ذلك فقد أنشأت الكويتُ "صندوق الحياة الكريمة" وساهمت فيه بمبلغ 100 مليون دولار، وذلك لمساعدةِ البلدانِ الأقلِ نمواً على مواجهةِ الارتفاعِ المتسارعِ في أسعارِ المواد الغذائية.
3. الحاضر مقابل المستقبل
من الناحيةِ الاقتصاديةِ، ونظراً لأن الدولةَ تعتمدُ في دخلها على مصدرٍ واحدٍ هو النفط، وهو ثروةٌ ناضبةٌ بطبيعتها، فقد قررَ أميرُ البلاد حينذاك عبدالله السالم الصباح (1950 – 1965)، طيبَ اللهُ ثراه، تنويعَ مصدرِ دخلِ البلادِ من خلال إنشاءِ صندوقٍ للثروةِ السياديةِ يعتبر الأولَ من نوعه في العالم، كان ذلك في عام 1953، أي قبل الاستقلالِ بثمانيةِ أعوام. هذا الصندوقُ، الذي تتولاه الهيئةُ العامة للاستثمار، يعدُّ أحدَ أكبرِ صناديقِ الثروةِ السيادية في العالم. وفي عام 1976 أصدر أميرُ البلاد حينذاك صباح السالم الصباح (1965 – 1977)، طيبَ اللهُ ثراه، قانوناً بإنشاءِ صندوقِ الأجيال القادمة، تُلَّخصُ هذه الفكرةُ الثوريةُ بفرضِ ضرائبَ معينةٍ على الجيلِ الحالي لصالحِ الأجيالِ القادمة، للأحفاد الذين لم يولدوا بعد، وهي فكرةٌ تعبرُ عن مدى بُعدِ نظرِ القيادةِ الكويتية لخلقِ موردٍ مالي يُمكِّنُ جيلَ ما بعد النفطِ مستقبلاً من خلقِ اقتصادِ مستدام.
أما من الناحيةِ السياسية، فعلى الرغم من التاريخِ القصير نسبياً لما بعدَ الاستقلال فقد كان التزامُ الكويتِ بالديمقراطية أمراً جلياً ومشهوداً، فديناميكيةُ نظامنا الديمقراطي وحيويتُه معروفةٌ جداً في المنطقة ومحلُّ إعجابِ المراقبين، والكويتُ تدين كثيراً بالفضلِ لوجودها السياسيِ المستمر إلى حوارها السياسي الدائم، وما نشهدُه من ربيعٍ عربي في بعضِ الدول العربية هو ربيعٌ دائمٌ في الكويت.
وعندما اعتمدَ الكويتيون دستورَهم عام 1962 اختاروا النظامَ النيابيَّ في الحكومة وذلك استكمالاً لما جُبلوا عليه منذ قرونٍ من ترسيخٍ لمبادئِ الشورى والحكمِ الرشيد واحترامِ سيادة القانون.
لقد شهدت البلادُ على مدى الخمسينَ عاما التالية للاستقلال إجراءَ 13 جولةً من الانتخابات البرلمانية، سجلت آخرَها في عام 2009 إنجازاً تاريخياً غير مسبوقٍ سواءً للكويت أو للديمقراطياتِ الصغيرة والناشئة، تَمثل بحصولِ المرأةِ الكويتية على 8% من مقاعدِ البرلمان. ويأتي هذا النجاحُ بعد أربعِ سنواتٍ فقط من حصولها على الحقِّ في التصويتِ والترشيح. إن هذا الانجازَ شكّلَ إضافةً مهمةً إلى رصيدِ الكويتِ لتحقيق الأهدافِ الإنمائية الألفية، كما أسهمَ في تشجيعِ النوابِ الآخرين على تسريعِ سنِّ التشريعاتِ في مجالات تمكينِ المرأةِ في القضايا المجتمعية.
أما في مجالِ الإعلامِ والحرياتِ الصحفية، فإن ما تتمتعُ به البلادُ من صحافةٍ حرةٍ ومتميزة في المنطقة وحراكٍ مجتمعيٍ نشيط، أدى إلى خلقَ قنواتٍ ومنابرَ للمواطنين للتعبيرِ عن الآراءِ قادت الكويتَ كأمةٍ لتصبحَ نموذجاً متفرداً للديمقراطية في المنطقة. ومما لا شك فيه، فإن هذا التفردَ يجدُ صدقيتَهُ من خلال ممارساتِ الأفراد لحرياتهم عندما يعبرُ المواطنُ عن رأيه بحرية، والصحفيُّ عن فكره، والمدوِّنُ عما يجولُ بخاطره دونَ خوف، فهذا دليلٌ جليٌ على أن الديمقراطيةَ صحيةٌ ومزدهرة.
4. الحداثة مقابل الأصالة
لقد اتخذت رحلةُ الإنسانِ من أجلِ البحثِ عن الحرية منعطفاً جديداً في عصرِ الانترنت قادته إلى عالمِ الفضاء الإلكتروني، فقد ساهمت المواقعُ الاجتماعيةُ كالـ"فيسبوك" والـ"تويتر" في سدِّ الكثيرِ من الفجواتِ بين البشر وقدمت لهم منبراً للتعبيرِ عن أفكارهم وإحباطاتهم ومطالباتهم تجاهَ حكوماتهم، فأصبحت مواقعُ التواصلِ الاجتماعيِ السلطةَ الخامسةَ في الدولة بعد السلطةِ الرابعة التي تمثلها الصحافة، وكدليلٍ على ذلك نجدُ أن الموقعَ الاجتماعي "تويتر" يضم حاليا ما يفوق 200 مليونِ مستخدم يشاركون بمليارِ تغريدةٍ أسبوعيا.
ولو عُدَّ الـ"فيسبوك" دولةً لأصبحَ يشكل ثالثَ أكبرِ دولةٍ في عددِ السكان في العالم، فقد بلغَ عددُ مستخدمي الـ"فيسبوك" أكثرَ من 750 مليونَ شخص، وفي الوطنِ العربي بلغَ عددُ مستخدميه 27.7 مليون شخص، وشهد الربعُ الأولُ من عام 2011 زيادةً استثنائية في عددِ المستخدمينَ في الوطن العربي بنسبة 30%. هذا ليس من قبيل المصادفة، فما شهدناه من انتفاضاتٍ في الشارعِ العربي يعتبر بلا شك مؤشراً قوياً على أن العربَ لجؤوا إلى منبرٍ يمكنهم من خلاله إسماعُ أصواتِهم ليس لنظرائهم المواطنين فقط بل للعالمِ بأسره. كما أن التأثيرَ الذي تحدثُه المواقعُ الاجتماعية وجدَ صداه بقوة في العديدِ من المواقع، فالكويتُ على سبيل المثال تعدُّ إحدى الدولِ الرائدة عربياً في استخدامِ موقعي "فيسبوك" و"تويتر".
أما بالنسبةِ لنا ككويتيين، فإن فهمنا للتقاليدِ والحداثة مترابطٌ مع حمضنا النووي (DNA)، والجسرُ ما بين التقاليدِ والحداثة ليس بالغريب على مجتمعنا. يربطُ الناسُ عادةً الحداثةَ بالانفتاحِ على العالم وثقافاته المتنوعةِ، وبالأفكارِ الجديدة سواءً كانت سياسيةً أو اقتصاديةً أو اجتماعية، وبذلك يمكنُ اعتبارُ الكويتيينَ "حداثيينَ تقليدياً"، واعتبارُ مدينةِ الكويتِ مدينةً عالمية. إن مجتمعنا من المجتمعات التي ركبت البحرَ في فترة ما قبلَ اكتشافِ النفط، وشق رجالُه عُبابَ البحرِ بحثاً عن الرزقِ والتجارة مع المجتمعات المختلفة، فلقد اتجهت رحلاتُهم إلى العراقِ والهندِ وبعيداً إلى زنجبار والمسمى بالمثلث التجاري. ومن أجل التواصلِ والتجارة عبرَ هذه البحارِ كان على أسلافنا الاهتمامُ بمعرفةِ لغاتٍ عدة كالهندية والسواحيلية، وكذلك الانجليزية لتفادي الأسطولِ الانجليزي، ومن ثمّ زرعَ هذا التواصلُ مع الأقوامِ والأديانِ والمدنِ المختلفة في أنفسهم حساً عالياً من التسامحِ انتقل من جيلٍ إلى آخر، ويمكن أن تجدوا هذا الحسَّ من التسامحِ والانفتاح في منازلنا فيما يُعرف بالديوانية. إن الديوانيةَ عبارةٌ عن تجمعٍ يمكن لأي غريبٍ دخولُه بحريةٍ والاختلاطُ بمرتاديه ومناقشةُ مواضيعَ كالسياسةِ والاقتصاد والدين، وليس هنالك أي موضوعٍ مستثنى من النقاش. فهذه الدواوينُ كانت قبل تأسيسِ برلماننا الحالي، برلماناتٍ مصغرةً منتشرةً في أرجاءِ الكويت، يتواصل الناسُ فيها ويطلقونَ آراءهم ويعبرون عن همومهم، وكانت عبارةً عن "تويتر" و"فيسبوك" الكويت قديماً قبلَ ظهورِ هذه المواقعِ الاجتماعية، ولا يجرؤ سياسيٌ ناجحٌ على تفادي زيارةِ الدواوين، فقد كانت ولا تزال تمثلُ نبضَ المجتمعِ والمؤشرَ الأساسيَ لقياسِ الرأيِ العام. لذا، كانت ديمقراطيتنا أصيلةً قبل أن توصفَ المجتمعاتُ بــ"الحداثة" أو "الموضة" بسبب ديمقراطيتها.
لتلك الأسباب، كان لدى الكويت ثقافةُ تسامحٍ وفهمٍ متجذرة للعالمية ومستمدةٌ من مهاراتٍ عمرُها قرونٌ من الزمن نقلها أسلافُنا لمن يليهم. ولذلك أيضاً، فإن تحولنا ككويتيين من التقليديةِ إلى الحداثةِ ليس عمليةً تحددُها التقنيةُ الحديثةُ لعالمنا المتسارع، بل كانت من صنعنا، فهي في الواقع منا وفينا.
أختمُ خطابي الليلةَ مع أهم جِسر نحتاجُ إلى بنائه، وهو الجسرُ بيننا كشعوب، بين الكويتيينَ والإيطاليين، بين المسلمينَ والمسيحيين، بين العربِ والأوروبيين، بين الشرقِ والغرب. إن هذه الفجوةَ بين لغاتنا وثقافاتنا وتقاليدنا هي التي يجبُ جَسرُها لنعلمَ ونتعلمَ من بعضنا بعضا في سبيل الهدفِ الأسمى، منفعتنا المشتركة. فوراءَ كلِّ اختلافاتنا هنالك ما نتشاركُ فيه جميعا اليوم وهنا، إنها حقوقُنا الساميةٌ كبشر.
أتركُكم أصدقائي مع اقتباسٍ من الأديبِ العربيِّ الكبيرِ جُبران خليل جبران. وهو رجلٌ كان له دورٌ محوريٌ في جَسر الفجوة بين الشرق والغرب، حيثُ قال: إن الثروةَ الحقيقةَ للأمةِ لا تكمنُ في الذهبِ والفضةِ، بل في علمِها وحكمتها واستقامةِ أبنائها."
باركَ اللهُ في دولةِ الكويت وفي الجمهوريةِ الإيطالية، وشكراً لكم جميعاً.
.